وكالة الجزيرة للأنباء -الدكتور ليث عبدالله القهيوي
في بلد يشكل فيه الشباب أغلبية سكانية، تتبدى مفارقة حادة بين طاقة جيل يتطلع إلى الغد، وبين عقلية إدارية ما تزال أسيرة الأمس. فالأردن يمتلك رصيدًا بشريًا عالي الكفاءة؛ آلاف الخريجين سنويًا، وانتشارًا متسارعًا للمهارات الرقمية والريادية بين الشباب، لكن النتائج الملموسة على الأرض لا تزال دون المستوى: بطالة مرتفعة، تحول رقمي بطيء، تعليم مهني محاصر بالوصمة، وريادة أعمال مقيدة بتشريعات معقدة وتمويل محدود. لذلك، فإن "أزمة القرار" لا تكمن في الشباب، بل في النماذج الذهنية التي تدير المؤسسات وتصنع السياسات العامة.
ورغم وفرة الخطط والاستراتيجيات وبرامج التمكين وورش ومؤتمرات ومنتديات إلا أن هذه الحركة الكثيفة لم تتحول إلى أثر نوعي. كثير من المبادرات أصبحت أسيرة هوس "النشاط" بدل "النتيجة": عدد الدورات بدل فرص العمل، وحجم الفعاليات بدل جودة مخرجاتها. وفي المنصات الرسمية يظهر الشباب غالبًا كجمهور للعرض أو التمثيل الشكلي، لا كصانعي قرار. هذه المقاربة التقليدية تحرم الدولة من طاقة جيل يعيش التحولات التكنولوجية لحظة بلحظة ويمتلك قدرة طبيعية على فهم الاقتصاد الرقمي وتوجهاته.
ان التحول الرقمي الذي يتردد في الوثائق الرسمية ما يزال محصورًا في إطار "رقمنة الورق" لا "رقمنة التفكير". فشراء الأنظمة وتحديث المنصات لا يصنع تحولًا طالما أن البيروقراطية ذاتها تعاد إنتاجها. ما فائدة النظام الإلكتروني إذا كان الموظف الشاب يحتاج إلى سلسلة طويلة من الموافقات لتطبيق فكرة مبتكرة؟ وما قيمة البيانات إذا بقيت أسيرة الجدران المؤسسية؟
التحول الحقيقي يتطلب قرارات جريئة:
* إزالة الإجراءات الزائدة لا تجميلها رقميًا،
* توحيد قواعد البيانات الوطنية،
* توفير البيانات المفتوحة أمام الشباب والرياديين،
* وقياس كفاءة المؤسسات بناء على زمن الخدمة وجودتها، لا على عدد الأختام والمذكرات.
اما التعليم المهني والتقني هو الحلقة الأكثر هشاشة في منظومة إعداد الموارد البشرية. ورغم التأكيد الرسمي على أهميته، ما تزال النظرة الاجتماعية تنظر إليه كخيار اضطراري " لمن لم ينجح أكاديميًا ". يضاف إلى ذلك غياب ربط حقيقي بين التدريب واحتياجات السوق، وندرة برامج التعليم المزدوج التي تدمج التعلم النظري مع الخبرة العملية داخل المصانع والمزارع والمختبرات. والنتيجة: شباب يحملون شهادات لكن يفتقرون إلى المهارات التطبيقية المطلوبة في الصناعة، الطاقة المتجددة، الزراعة الذكية، الخدمات اللوجستية، والاقتصاد الأخضر.
وتطرح ريادة الأعمال كمنقذ من البطالة، لكن الواقع أكثر تعقيدًا. فالكثير من الأفكار الريادية تموت في مهدها بين تعقيد الإجراءات وندرة التمويل، وبين مسرعات أعمال قصيرة العمر لا تتحول إلى بيئة داعمة مستدامة. الأخطر أن يتحول خطاب الريادة إلى أداة لتبرئة السياسات العامة، وكأن الشباب هم وحدهم المسؤولون عن "اختراع وظائفهم" في اقتصاد محدود الحجم وشديد التنافسية.
ريادة الأعمال تحتاج منظومة لا شعارات من خلال قوانين حديثة، تمويل متدرج، حماية للمخاطرة، منصات بيانات مفتوحة، وشراكات بين الجامعات والقطاع الخاص.
ان المعضلة الأساسية ليست نقص الأفكار ولا غياب المبادرات؛ بل في وجود عقلية إدارية تفضل إدارة الاستقرار على قيادة التحول. عقلية تخشى التجريب، وتكافئ الإجراءات بدل الإبداع، وتحاسب على الخطأ أكثر مما تثمن المبادرة. هذه العقلية تخلق بيئة طاردة للكفاءات، وتعمّق فجوة الثقة بين الدولة والشباب، وتحول الابتكار إلى مجهود فردي بدل أن يكون مشروعًا وطنيًا.
يمكن للأردن أن يتحول إلى نموذج إقليمي واعد إذا امتلك الجرأة على إعادة ضبط طريقة صناعة القرار عبر:
1. تمثيل حقيقي للشباب في المجالس واللجان الهيكلية لا في الفعاليات الاحتفالية.
2. إنشاء حاضنات ابتكار داخل الوزارات تسمح بتجريب الحلول الجديدة بدل خنقها بالإجراءات.
3. حماية المسؤول الذي يجرب بحسن نية وتشجيعه بدل معاقبته على المبادرة.
4. ربط السياسات الشبابية بمؤشرات تشغيل وإنتاجية واضحة لا بعدد الأنشطة والفعاليات.
5. تحديث الإطار القانوني والتنظيمي ليواكب الاقتصاد الجديد القائم على المعرفة والبيانات.
ان الشباب الأردني يمتلك ما يكفي من المعرفة والطاقة والخيال لبناء مستقبل مختلف؛ لكن ذلك يحتاج إلى تغيير جذري في "عقلية القرار" من إدارة استقرار هش إلى قيادة تحول شجاع. وعندما نعيد الاعتبار للمعرفة والإبداع والجرأة، تتحول الأزمة من قيد خانق إلى فرصة لإعادة صياغة نموذج جديد للاقتصاد والتعليم.
الشباب اليوم لا ينتظرون أن يُدعوا إلى مقاعد المتفرجين؛ ينتظرون تغييرًا يعترف بأن مستقبل الأردن لن يبنى بالصدفة، ولا عبر مزيد من الخطابات والوعود، بل بإعادة صياغة قواعد اللعبة ذاتها: من كيفية إنتاج القرار، إلى من يملك حق المشاركة فيه، إلى آليات المساءلة على نتائجه.
وإذا أرادت الدولة أن تستعيد ثقة جيلها الأكبر عددًا والأعلى قدرة، فلا بد من الانتقال من سياسة الاسترضاء إلى سياسة التمكين، ومن إدارة الوقت إلى إدارة التحول، ومن تخفيف التوترات إلى صناعة الحلول. فدولة لا تشرك شبابها في صياغة المستقبل ستجد نفسها مضطرة لاحقًا إلى التعامل مع نتائج قرارات لم يصنعوها ولم يكن لهم رأي فيها.
إن الأردن اليوم أمام لحظة فاصلة: إما فتح الأبواب أمام جيل جديد قادر على التفكير بطرق غير تقليدية، أو الإبقاء على عقلية تعيد إنتاج ذات المعادلات التي أوصلتنا إلى الركود والبطالة وهجرة العقول. والذين يعتقدون أن الزمن قادر على حماية النماذج القديمة… ينسون أن الزمن نفسه هو ما يكشف هشاشتها.
لقد آن الأوان أن ننتقل من التعامل مع الشباب بوصفهم "ملفًا اجتماعيًا" إلى الاعتراف بهم كـ شريك وطني في السلطة والفكرة والتخطيط. لا نريد نموذجًا يُصافح الشباب في المنصات ويقصيهم عن غرف القرار، بل نموذجًا يكونون فيه صانعين للسياسات، لا موضوعًا لها… فكرةً فكرة، وكلمةً كلمة، وسطرًا بسطر.